الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا تَخْرِيج المُبَرِّد، وسيبويه يَزْعم أنه ليْس بجَوَابٍ، إنَّما هو دالٌّ على الجَوَاب والنِّيةُ به التقديمُ.وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر: وهو أنْ يكُون يَصْرَعُ المرفُوعُ خبرًا لإنك، والشَّرطُ معترِضٌ بينهما، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله: إنك تصرع؛ كقوله: {وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم؛ فإنه قال: ويجُوزُ أن يُقال: حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ {أينما تَكُونوا} وهو {أينما كُنْتُم} كما حُمِل على ما يقع موقع ليسوا مصلحين وهو ليسوا بمصلحين فرفع كما رفع زهير ولا ناعب: [البسيط] وهو قولُ نحويّ سِيبيّ، يعني منسوب لسيبويه، فكأنه قال: {أينما كنتم}، وفعلُ الشرط إذا كان ماضيًا لفظًا جازَ في جوابه المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير: [البسيط] وفي رَفْعِهِ الوَجْهَان المَذْكُوران عن سيبويه والمُبرِّد. ورَدَّ عليه أبو حَيّان: بأن العطفَ على التوَهُّم لا يَنْقَاس؛ ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حَذْفِ جواب الشَّرْط، ولا يُحْذَفُ إلاَّ إذا كان فِعْل الشَّرْط ماضيان لو قُلْت: أنت ظَالمٌ إنْ تفعل لم يَجُز. وهذا- كَمَا رَأيتَ- مضارعٌ، وفي هذا الردِّ نَظَرٌ لا يَخْفَى.{ولو كنتم} قالوا: هي بِمَعْنى: إنْ وجوابُها مَحْذُوف، أي: لأدْرَكَكُمْ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلًا غَرِيبًا عن عِنْدَ نَفْسِه، فقال: ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي: لا تُنْقَصُون شيئًا مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها، ثم ابتدأ بِقَوله: {تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} انتهى.ورَدَّ عليه أبو حيَّان، فقال: هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية:أمَّا من حَيْثُ المعنى: فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلًا بقوله: {لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِرًا إنما هو في الآخرة؛ لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى}.وأمَّا من حَيْث الصِّنَاعةُ النَّحويّة: فإنَّ ظاهر كلامه يَدُلُّ على أنَّ {أينما تكونوا} متعلِّقٌ بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بمعنى ما فسّره، وهذا لا يجُوزُ؛ لأن أسْمَاءَ الشَّرْط لها صَدْرُ الكَلاَم، فلا يَتَقَدَّم عَامِلُها عليها، فإنْ وَرَد مثلُ: اضْربْ زيدًا متى جَاءَ قُدِّر له عَاملٌ يدلُّ عليه اضرب لا نفسُ اضْرِب المتقدِّم.فإن قيل: فكذلك يُقَدِّر الزَّمَخْشَرِيّ عاملًا يدلُّ عليه {وَلاَ تُظْلَمُونَ} تقديره: أينما تكونوا فلا تظلمون فحذف فلا تظلمون، لدلالةِ ما قبله عليه، فيخلُصُ من الإشْكَال المَذْكُور.قيل: لا يُمْكِن ذلك؛ لأنه حينئذ يُحذفُ جَواب الشَّرط وفعلُ الشرط مُضَارعٌ، وقد تقدم أنَّه لا يَكُون إلا ماضيًا. وفي هذا الردِّ نظرٌ؛ لأنه أرادَ تَفْسِير المَعْنَى. قوله: ولا يناسب أن يكون مُتَّصِلاَ بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} مَمْنُوعٌ، بل هُو مُنَاسِب، وقد أوضَحَهُ الزَّمَخْشَرِي بما تقدَّم أحْسَنَ إيضَاحٍ.والجُمْلَة الامتنَاعِيَّة في مَحَلَّ نصبٍ على الحَالِ، أي: أينما تَكُونوا من الأمكنة، يدركْكم المَوْت، ولو كانت حَالُكم أنَّكم في هذه البُرُوج، فيُفْهَمُ أن إدراكه لهم في غَيْرِها بطريق الأوْلى والأخْرى، وقريبٌ منه: «أعْطُوا السَّائِل ولو على فَرَسٍ». والجملةُ الشَّرطِيَّة تحتمل وَجْهَيْن:أحدهم: أنها لا مَحَلَّ لها من الإعراب؛ لأنها استِئْنَافُ إخبارٍ؛ اخبر تعالى أنَّه لا يفُوتُ الموتَ أحَدٌ، ومنه قولُ زُهَيْر: [الطويل] والثَّاني: أنها في مَحَلِّ نَصبٍ بالقَوْل قَبْلَها أي: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَبِيلٌ، وقُلْ أيضًا: أينما تَكُونُوا.والجُمْهُور على {مشيدة} بفتح الياء اسم مَفْعُول. ونعيم بن ميْسَرة بِكَسْرِها، نسَبَ الفعلَ إليها مَجَازًا؛ كقولهم: قَصِيدَةٌ شَاعِرَة، والموْصُوفُ بذلك أهْلُها، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مُبَالغةً في الوَصْفِ.والبُرُوج: الحُصُونُ مَأخُوذةٌ من التَّبرُّج وهو الإظْهَارُ، ومنه: {غير مُتبرِّجَات بزينة}، والبَرَجُ في العين: سَعَتُها، ومنه قولُ ذي الرُّمَّة: [البسيط] وقولُهُم: ثَوْبٌ مُبَرَّجٌ أي: عليه صُورُ البُرُوج؛ كقولهم: مِرْطٌ مُرَجَّل أي: عليه صُورُ الرِّجَال، يروى بالجيم والحاء، والمشيَّدة: المَصْنُوعة بالشِّيدِ؛ وهو الجِصُّ، ويقال: شَادَ البِنَاء وشيَّدَهُ كرَّر العَيْن للتَّكْثِير؛ ومن مجيء شاد قولُ الأسود: [الخفيف] ويقال: أشاد أيْضًا، فيكون فَعَل وأفْعَل بِمَعْنًى.قال الزَّمَخْشَرِيُّ: شاد القَصْرَ إذا رَفَعَهُ أو طَلاَه بالشِّيد، وهو الجِصُّ وهذا قَوْل عِكْرمَة، وقال قتادة معناه: في قُصُورٍ محصَّنةٍ، وقال السُّدِّيُّ في بُرُوجِ في سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّة، وهي بُرُوج الفلك الاثْنَي عشر، وهذا القَوْل مَحْكِيٌّ عن مَالِك، ومعنى مشيدة، أي مادّة من الرَّفْع؛ وهي الكَوَاكِبُ العِظَام.وقيل: للكَواكِب: بُرُوجٌ، لظُهُورِها من بَرِجَ يَبْرِج إذا ظَهَر وارْتَفَع.قوله: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ}وقف أبو عمرو والكسائي- بخلاف عَنْه- على مَا في قوله: {فما لهؤلاء} وفي قوله: {مَالِ هذا الرسول} [الفرقان: 7] وفي قوله: {مَا لهذا الكتاب} [الكهف: 49] وفي قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المعارج: 36]. والبَاقُون: على اللام التي للجرِّ دون مَجْرُورها اتِّباعًا للرَّسم، وهذا ينبغي ألاّ يَجُوز- أعني: الوَقْفَيْن- لأنَّ الأوَّل يُوقَف فيه على النُبْتَدَأ دونَ خَبرِه، والثاني يُوقِف فيه على حَرْفِ الجَرِّ دونَ مَجْرُورِه، وإنما يجُوزُ ذلك؛ لضَرُورةِ قَطْعِ النَّفْسِ أو ابْتِلاَءٍ.قال الفرَّاء: كثرت في الكَلاَم هذه الكَلِمَة، حتى تَوهَّمُوا أنَّ اللاَّم متصلة بِهَا، وأنَّهُمَا حَرْف وَاحِدٌ، ففصَلُوا اللاَّمَ بما بَعْدَها في بَعْضِه، وَوَصَلُوها في بَعْضِه، والقراءة الاتِّصَالُ، ولا يجُوزُ الوَقْفُ على اللامِ؛ لأنَّها لامٌ خافضة.لمَّا دلَّ الدَّلِيل على أنَّ كل ما سِوَى الله مستندٌ إلى الله، وكان ذَلِكَ الدَّليل في غاية الظُّهُور، قال تعالى: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} وهذا يَجْرِي مُجْرَى التَّعَجُّبِ؛ لعدم وُقُوفِهم على صِحَّةِ هَذَا الكَلاَمِ مع ظُهُورِهِ. اهـ. بتصرف.
|